٢٢ مارس ٢٠١٢

الجهاد الشعبي


قبل تغول الدولة القومية القطرية الحديثة محتكرة القوة والسلاح على المجتمع والجماهير والشعوب انتزعت الأنظمة من الشعوب والمجتمعات مقوماتها ومقدراتها الأهلية التي تمكنها من الصمود والمواجهة والاشتباك مع الاستعمار أو الاحتلال أو الاستبداد (الاحتلال المحلي الوظيفي) وأفقدته المناعة ضده واستباحت كرامته لتصادر أي إمكانية للفعل التصحيحي الوطني المقاوم للفساد والإستئساد السلطوي المنظم الذي دأبت النخب الاستبدادية العربية الحاكمة على ممارسته (الاشتراكية والقومية والرأسمالية) .

إذ مارست هذه النخب الاستبدادية التحديث السلطوي من أعلى بأجندة حداثية وأدوات سلطوية حديثة شملت والأجهزة الأمنية والقطاعات العسكرية السلطوية المسيسة وأجهزة الإعلام والإرشاد والتعليم ، فنابت عن الاستعمار بالدولة الوظيفية الخاضعة وأزاحت عنه مهمة السيطرة والإخضاع المكلف الذي يتطلبه الحضور الاستعماري المباشر ؛ والذي يفرض على المستعمر اعتبارات إنسانية وقيمية تبريرية لا يحتاجها المستبد المحلي المنفصل عن فضاؤه الشعبي قيمياً وثقافياً ووطنياً بحكم علمنته وتغربه وعولميته الاقتصادية وارتهانه السياسي والاستراتيجي بالقرار الخارجي حينها المحتل الوظيفي المحلي إلى القمع والعنف لعلاج وتجاوز أزمة الشرعية الداخلية وإلى التحديث التبريري القسري المرتبط أيضاً بالقمع والعنف مع الداخل الشعبي (تجربة محمد علي وعبد الناصر والسادات)

هذا التحديث يتحرك معرفياً ومنهجياً في إطار التقليد للغربي الوافد ويعمم الخصوصية الغربية المرتبطة بسياقها المجتمعي والتاريخي ليضفي عليها كونية وعالمية يبرر بها النقل الحرفي عنها ! ، لم يصنع حداثة أصيلة (تحديث وهمي دون حداثة حقيقية) ولم يحفظ للمجتمع بنيته التي تسمح له بالصمود والمقاومة ,,, إذ أتى المشروع التحديثي التغريبي المعلمن الذي قاده محمد علي لتأسيس دولة القمع والقهر والاستبداد على حساب الكيانات الأهلية والمجتمعية الأصيلة ممثلة في الأزهر والأوقاف والتعليم الأهلي والوقف الأهلي (وكذلك فعل عبد الناصر في لحظة تاريخية تالية مشابهة!) مما أنتج حداثة منفصلة عن مجتمعها فشلت جيوشها النظامية في المواجهة العسكرية (معاهدة لندن ، ونكسة 67) ولم تبقى للمجتمع روحه النضالية الجهادية الشعبية وقيمه الثورية التحررية الاستقلالية فكان الاحتلال الإنجليزي لمصر بلا مقاومة شعبية تماثل مقاومة الفرنسيين في أزقة وأحياء ومساجد القاهرة الشعبية .

وبإضافة عامل العلمنة السلطوية التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية من الأعلى باستخدام أدوات الدولة الوظيفية (الإعلام التعليم التربية الثقافة الصحافة ...) فقد المجتمع مقوماته الصمودية النضالية سواء المؤسسية منها (الكيانات الأهلية كالوقف والتعليم الأهلي) ، أو الوجدانية والتربوية والثقافية (من خلال عمليات العلمنة) ، أو الشبكات الاجتماعية التضامنية التراحمية التي توفر حاضنة لصمود شعبي في المواجهة (من خلال عمليات التحديث وإلغاء العلاقات التراحمية الاجتماعية واستبدالها بعلاقات تعاقدية نفعية بحتة)

لكن التحولات الاجتماعية التي رافقت ثورة المعلومات ومجتمعات المعرفة واستفادت منها الأجيال الجديدة التي لم تقرأ التاريخ ولم تأسرها التجربة والخبرة فتمكنت من تكوين علاقات شبكية جديدة متكئة على الأداة الاتصالاتية التواصلية الحديثة وانتقلت بها من العوالم الافتراضية إلى الميدان ! هذه الشبكات التي أشعلت الثورات ، وحمت الثورات ، يجب استثمارها وتشغيلها في حالة تحررية تضامنية وحدوية مناصرة لمواجهة العدوان الاحتلالي الإحلالي الصهيوني ، والعدوان الاستبدادي الدموي السلطوي (حالة الأسد والقذافي مثلاً) ، وهذا ليس محض مشروعاً تحررياً وإنسانياً (تحرير الأوطان وحفظ كرامة ودم الإنسان) وإنما مشروعاً حضارياً يعيد الاعتبار للأمة والجماعة والمجتمع في مقابل السلطة والدولة والنظام السياسي ، ويخفف من وطأة كيان الدولة الثقيل فوق المجتمع ويمكّن للأمة من ممارسة أدوارها الرسالية العالمية بشكل لا يستورد التجربة القومية الغربية التي تقضي على مؤسسات الأمة الأهلية والمالية والاجتماعية والرسالية .

ان الخطوة التالية في مواجهة مشروع الاستبداد والاحتلال هي تكوين نواة دفاعية شعبية تحررية تنهض بعبء تحرير الأوطان والإنسان وتحقق النموذج القيمي الإسلامي الذي جسدته الثورات العربية (التضامني التكافلي التراحمي التكاملي التآذري) وتحفظ دماء الإنسان الذي فشلت النخب العسكرية الوظيفية (نتيجة تبعية العقيدة العسكرية وضمور الحس الاستقلالي) في حفظه كما تتجلى الثورة السورية الفاضحة الكاشفة ، وكما تجلى سابقاً في الحروب الوظيفية التي خاضتها هذه الجيوش لحسابات غير وطنية (حرب العراق – حرب الثماني سنوات – ضرب ليبيا والسودان والتصعيد مع إيران -....) وهذا يتسق مع ما أنتجته الحالة ما بعد ثورية من استعادة دور الفاعل الشعبي كأهم فاعل مؤثر في المشهد بعد إفلاس النخب ، ويستدعي نماذج تاريخية قريبة لقدرة الدفاع الشعبي المقاومة الشعبية على تحقيق نتائج وإحراز نجاحات فشلت النخب العسكرية النظامية في تحقيقها (المقاومة الشعبية في السويس – حرب فلسطين: 1948 – المقاومة الشعبية في ليبيا ضد الطليان وفي الجزائر ضد الفرنسيين – كتائب الإخوان في فلسطين ...) وربما تكون تجربة "الجيش المرابط" المصري الذي شكله عبد الرحمن عزام قبل الحرب العالمية الثانية نموذج مثالي لتكامل الإرادة الشعبية والرسمية والدعم العربي والإسلامي لمقاومة الإنجليز .

وفي المقالات المقبلة تفصيل في نموذج المقاومة الشعبية وتطبيقه في الحالة السورية كمخرج وحيد لصون دماء الإنسان وسيادة الأوطان.

ليست هناك تعليقات:

Google